فصل: بيان ذم الشهرة وانتشار الصيت

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إحياء علوم الدين **


بيان ذم الغنى ومدح الفقر

اعلم أن الناس قد اختلفوا في تفضيل الغني الشاكر على الفقير الصابر - وقد أوردنا ذلك في كتاب الفقر والزهد وكشفنا عن تحقيق الحق فيه - ولكنا في هذا الكتب ندل على أن الفقر أفضل وأعلى من الغني على الجملة من غير التفات إلى تفصيل من الأغنياء حيث احتج بأغنياء الصحابة وبكثرة مال عبد الرحمن بن عوف وشبه نفسه بهم والمحاسبي رحمه الله حبر الأمة في علم المعاملة وله السبق على جميع الباحثين عن عيوب النفس وآفات الأعمال وأغوار العبادات وكلامه جدير بأن يحكى على وجهه‏.‏

وقد قال بعد كلام له في الرد على علماء السوء‏:‏ بلغنا أن عيسى ابن مريم عليه السلام قال‏:‏ يا علماء السوء تصومون وتصلون وتصدقون ولا تفعلون ما تؤمرون وتدرسون ما لا تعملون فيا سوء ما تحكمون تتوبون بالقول والأماني وتعملون بالهوى وما يغني عنكم أن تنقوا جلودكم وقلوبكم دنسة بحق أقول لكم لا تكونوا كالمنخل يخرج منه الدقيق الطيب وتبقى فيه النخالة كذلك أنتم تخرجون الحكم من أفواهكم ويبقى الغل في صدوركم يا عبيد الدنيا كيف يدرك الآخرة من لا تنقضي من الدنيا شهوته ولا تنقطع منها رغبته بحق أقول لكم إن قلوبكم تبكي من أعمالكم جعلتم الدنيا تحت ألسنتكم والعمل تحت أقدامكم بحق أقول لكم أفسدتم آخرتكم فصلاح الدنيا أحب إليكم من صلاح الآخرة فأي الناس أخسر منكم لو تعلمون ويلكم حتام تصفون الطريق للمدلجين وتقيمون في محل المتحيرين‏!‏ كأنكم تدعون أهل الدنيا ليتركوها لكم مهلاً مهلاً‏!‏ ويلكم ماذا يغني عن البيت المظلم أن يوضع السراج فوق ظهره وجوفه وحش مظلم كذلك لا يغني عنكم أن يكون نور العلم بأفواهكم وأجوافكم منه وحشة متعطلة‏!‏ يا عبيد الدنيا لا كعبيد أتقياء ولا كأحرار كرام توشك الدنيا أن تقلعكم عن أصولكم فتلقيكم على وجوهكم ثم تكبكم على مناخركم ثم تأخذ خطاياكم بنواصيكم ثم تدفعكم من خلفكم حتى تسلمكم إلى الملك الديان عراة فرادى فيوقفكم على سوآتكم ثم يجزيكم بسوء أعمالكم‏.‏

ثم قال الحارث رحمه الله‏:‏ إخواني فهؤلاء علماء السوء شياطين الإنس وفتنه على الناس رغبوا في عرض الدنيا ورفعتها وآثروها على الآخرة وأدلوا الدين للدنيا فهم في العاجل عار وشين وفي الآخرة هم الخاسرون أو يعفو الكريم بفضله‏.‏

وبعد‏:‏ فإني رأيت الهالك المؤثر للدنيا سروره ممزوج بالتنغيص فيتفجر عنه أنواع الهموم وفنون المعاصي وإلى البوار والتلف مصيره فرح الهالك برجائه فلم تبق له دنياه ولم يسلم له دينه ‏"‏ خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين ‏"‏ فيا لها من مصيبة ما أفظعها ورزية ما أجلها ألا فراقبوا الله إخواني ولا يغرنكم الشيطان وأولياؤه من الآنسين بالحجج الداحضة عند الله فإنهم يتكالبون على الدنيا ثم يطلبون لأنفسهم المعاذير والحجج ويزعمون أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت لهم أموال فيتزين المغرورون بذكر الصحابة ليعذرهم الناس على جمع المال ولقد دهاهم الشيطان وما يشعرون‏.‏

ويحك أيها المفتون إن احتجاجك بمال عبد الرحمن بن عوف مكيدة من الشيطان ينطق بها على لسانك فتهلك‏!‏ لأنك متى زعمت أن أخيار الصحابة أرادوا المال للتكاثر والشرف والزينة فقد اغتبت السادة ونسبتهم إلى أمر عظيم ومتى زعمت أن جمع المال الحلال أعلى وأفضل من تركه فقد ازدريت محمداً والمرسلين ونسبتهم إلى قلة الرغبة والزهد في هذا الخير الذي رغبت فيه أنت وأصحابك من جمع المال ونسبتهم إلى الجهل إذ لم يجمعوا المال كما جمعت ومتى زعمت أن جمع المال الحلال أعلى من تركه فقد زعمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينصح للأمة إذ نهاهم عن جمع المال وقد علم أن جمع المال خير للأمة فقد غشهم بزعمك حين نهاهم عن جمع المال كذبت ورب السماء على رسول الله صلى الله عليه وسلم‏!‏ فلقد كان للأمة ناصحاً وعليهم مشفقاً وبهم رؤوفاً‏.‏

ومتى زعمت أن جمع المال أفضل فقد زعمت أن الله عز وجل لم ينظر لعباده حين نهاهم عن جمع المال وقد علم أن جمع المال خير لهم أو زعمت أن الله تعالى لم يعلم أن الفضل في الجمع فلذلك نهاهم عنه وأنت عليم بما في المال من الخير والفضل لذلك رغبت في الاستكثار كأنك أعلم بموضع الخير والفضل من ربك تعالى الله عن جهلك أيها المفتون تدبر بعقلك ما دهاك به الشيطان حين زين لك الاحتجاج بمال الصحابة‏!‏ ويحك ما نفعك الاحتجاج بمال عبد الرحمن بن عوف وقد ود عبد الرحمن بن عوف في القيامة أنه لم يؤت من الدنيا إلا قوتاً وقد بلغني أنه لما توفي عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنا نخاف على عبد الرحمن فيما ترك‏!‏ فقال كعب‏:‏ سبحان الله‏!‏ وما تخافون على عبد الرحمن كسب طيباً وأنفق طيباً وترك طيبا‏!‏ فبلغ ذلك أبا ذر فخرج مغضباً يريد كعباً فمر بعظم لحي بعير فأخذه بيده ثم انطق يريد كعباً فقيل لكعب‏.‏

إن أبا ذر يطلبك فخرج هارباً حتى دخل على عثمان يستغيث به وأخبره الخبر وأقبل أبو ذر يقص الأثر في طلب كعب حتى انتهى إلى دار عثمان فلما دخل قام كعب فجلس خلف عثمان هارباً من أبي ذر فقال له أبو ذر‏:‏ هيه يا بن اليهودية‏!‏ تزعم أن لا بأس بما ترك عبد الرحمن بن عوف ولقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً نحو أحد وأنا معه فقال ‏"‏ يا أبا ذر ‏"‏ فقلت‏:‏ لبيك يا رسول الله فقال ‏"‏ الأكثرون هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال هكذا وهكذا عن يمينه وشماله وقدامه وخلفه وقليل ما هم ‏"‏ ثم قال ‏"‏ يا أبا ذر ‏"‏ قلت‏:‏ نعم يا رسول الله بأبي أنت وأمي قال ‏"‏ ما يسرني أن لي مثل أحد أنفقه في سبيل الله أموت يوم أموت وأترك منه قيراطين ‏"‏ قلت أو قنطارين يا رسول الله قال ‏"‏ بل قيراطان ‏"‏ ثم قال ‏"‏ يا أبا ذر أنت تريد الأكثر وأنا أريد الأقل فرسول الله يريد هذا وأنت تقول يا ابن اليهودية لا بأس بما ترك عبد الرحمن بن عوف كذبت وكذب من قال‏!‏ فلم يرد عليه خوفاً حتى خرج‏.‏

وبلغنا أن عبد الرحمن بن عوف قدمت عليه عير من اليمن فضجت المدينة ضجة واحدة فقالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ ما هذا قيل عير قدمت لعبد الرحمن قالت‏:‏ صدق الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فبلغ ذلك عبد الرحمن فسألها فقالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ إني رأيت الجنة فرأيت فقراء المهاجرين والمسلمين يدخلون سعياً ولم أرد أحداً من الأغنياء يدخلها معهم إلا عبد الرحمن بن عوف يدخلها معهم حبوا فقال عبد الرحمن‏:‏ إن العير وما عليها في سبيل الله وإن إرقاءها أحراراً لعلي أدخلها معهم سعياً‏.‏

وبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الرحمن بن عوف ‏"‏ أما إنك أول من يدخل الجنة من أغنياء أمتي وما كدت أن تدخلها إلا حبواً‏.‏

ويحك أيها المفتون فما احتجاجك بالمال وهذا عبد الرحمن في فضله وتقواه وصنائعه المعروف وبذله الأموال في سبيل الله مع صبحته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبشراه بالجنة أيضاً

يوقف في عرصات القيامة وأهوالها بسبب مال كسبه من حلال للتعفف ولصنائع المعروف وأنفق منه قصداً وأعطي في سبيل الله سمحاً منع من السعي إلى الجنة مع الفقراء المهاجرين وصار يحبو في آثارهم حبواً فما ظنك بأمثالها الغرقى في فتن الدنيا وبعد‏:‏ فالعجب كل العجب لك يا مفتون تمرغ في تخاليط الشبهات والسحت وتتكالب على أوساخ الناس وتتقلب في الشهوات والزينة والمباهاة وتتقلب في فتن الدنيا ثم تحتج بعبد الرحمن وتزعم أنك إن جمعت المال فقد جمعه الصحابة كأنك أشبهت السلف وفعلهم ويحك إن هذا من قياس إبليس ومن فتياه لأوليائه‏!‏ وسأصف لك أحوالك وأحوال السلف لتعرف فضائحك وفضل الصحابة‏.‏

ولعمري لقد كان لبعض الصحابة أموال أرادوها للتعفف والبذل في سبيل الله فكسبوا حلالاً وأكلوا طيباً وأنفقوا قصداً وقدموا فضلاً ولم يمنعوا منها حقاً ولم يبخلوا بها لكنهم جادوا لله بأكثرها وجاد بعضهم بجميعها وفي الشدة آثروا الله على أنفسهم كثيراً فبالله أكذلك أنت والله إنك لعبيد الشبه بالقوم‏.‏

وبعد‏:‏ فإن أخيار الصحابة كانوا للمسكنة محبين ومن خوف الفقر آمنين وبالله في أرزاقهم واثقين وبمقادير الله مسرورين وفي البلاء راضين وفي الرخاء شاكرين وفي الضراء صابرين وفي السراء حامدين وكانوا لله متواضعين وعن حب العلو والتكاثر ورعين‏.‏

لم ينالوا من الدنيا إلا المباح لهم بالبلغه منها وزجوا الدنيا وصبروا على مكارهها وتجرعوا مرارتها وزهدوا في نعميها وزهرتها‏.‏

فبالله أكذلك أنت ولقد بلغنا أنهم كانوا إذا أقبلت الدنيا عليهم حزنوا وقالوا‏:‏ ذنب عجلت عقوبته من الله وإذا رأوا الفقر مقبلاً قالوا‏:‏ مرحباً بشعار الصالحين‏.‏

وبلغنا أن بعضهم كان إذا أصبح وعند عياله شيء أصبح كئيباً حزيناً وإذا لم يكن عندهم شيء أصبح فرحاً مسروراً فقيل له‏:‏ إن الناس إذا لم يكن عندهم شيء حزنوا وإذا كان عندهم شيء فرحوا وأنت لست كذلك‏!‏ قال‏:‏ إني إذا أصبحت وليس عند عيالي شيء فرحت إذ كان لي برسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة وإذا كان عند عيالي شيء اغتممت إذ لم يكن لي بآل محمد أسوة‏.‏

وبلغنا أنهم كانوا إذا سلك بهم سبيل الرخاء حزنوا وأشفقوا وقالوا‏:‏ ما لنا وللدنيا وما يراد بها فكأنهم على جناح خوف وإذا سلك بهم سبيل البلاء فرحوا واستبشروا وقالوا‏:‏ الآن تعاهدنا ربنا‏.‏

فهذه أحوال السلف ونعتهم وفيهم من الفضل أكثر مما وصفنا‏.‏

فبالله أكذلك أنت إنك لبعيد الشبه بالقوم‏.‏

وسأصف لك أحوالك أيها المفتون ضداً لأحوالهم وذلك أنك تطغي عند الغنى وتبطر عند الرخاء وتمرح عند السراء وتغفل عن شكر ذي النعماء وتقنط عن الضراء وتسخط عند البلاء ولا ترضى بالقضاء‏.‏

نعم وتبغض الفقر وتأنف من المسكنة وذلك فخر المرسلين وأنت تأنف من فخرهم‏.‏

وأنت تدخر المال وتجمعه خوفاً من الفقر وذلك من سوء الظن بالله عز وجل وقلة اليقين بضمانه وكفى به إثماً وعساك تجمع المال لنعيم الدنيا وزهرتها وشهواتها ولذاتها‏.‏

ولقد بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏"‏ شرار أمتي الذين غذوا بالنعيم فربت عليهم أجسامهم وبلغنا أن بعض أهل العلم قال‏:‏ ليجيء يوم القيامة قوم يطلبون حسنات لهم فيقال لهم ‏"‏ أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها ‏"‏ وأنت في غفلة قد حرمت نعيم الآخرة بسبب نعيم الدنيا فيا لها حسرة ومصيبة‏!‏ نعم وعساك تجمع المال للتكاثر والعلو والفخر والزينة في الدنيا وقد بلغنا أنه من طلب الدنيا للتكاثر أو للتفاخر لقي الله وهو عليه غضبان وأنت غير مكترث بما حل بك من غضب ربك حين أردت التكاثر والعلو نعم عساك المكث في الدنيا أحب إليك من النقلة إلى جوار الله فأنت تكره لقاء الله والله للقائك أكره وأنت في غفلة وعساك تأسف على ما فاتك من عرض الدنيا وقد بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏"‏ من أسف على دنيا فاتته اقترب من النار مسيرة شهر‏.‏

وقيل سنة‏.‏

‏"‏ وأنت تأسف على ما فاتك غير مكترث بقربك من عذاب الله‏.‏

نعم ولعلك تخرج من دينك أحياناً لتوفير دنياك وتفرح بإقبال الدنيا عليك وترتاح لذلك سروراً بها وقد بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏"‏ من أحب الدنيا وسر بها ذهب خوف الآخرة من قلبه وبلغنا أن بعض أهل العلم قال إنك تحاسب على التحزن على ما فاتك من الدنيا وتحاسب بفرحك في الدنيا إذا قدرت عليها وأنت فرح بدنياك وقد سلبت الخوف من الله تعالى وعساك تعنى بأمور دنياك أضعاف ما تعنى بأمور آخرتك وعساك ترى مصيبتك في معاصيك أهون من مصيبتك في انتقاص دنياك ونعم وخوفك من ذهاب مالك أكثر من خوفك من الذنوب وعساك تبذل للناس ما جمعت من الأوساخ كلها للعلو والرفعة في الدنيا وعساك ترضى المخلوقين مساخطاً لله تعالى كيما تكرم وتعظم‏.‏

ويحك‏!‏ فكأن احتقار الله تعالى لك في القيامة أهون عليك من احتقار الناس إياك وعساك تخفى من المخلوقين مساويك ولا تكترث باطلاع الله عليك فيها فكأن الفضيحة عند الله أهون عليك من الفضيحة عند الناس فكأن العبيد أعلى عندك قدراً من الله تعالى الله عن جهلك‏!‏ فكيف تنطق عند ذوي الألباب وهذه المثالب فيك أف لك‏!‏ متلوثاً بالأقذار وتحت بمال الأبرار هيهات هيهات ما أبعدك عن السلف الأخيار والله لقد بلغني أنهم كانوا فيما أحل لهم أزهد منكم لكبائر المعاصي فليت صومك على مثال إفطارهم وليت اجتهادك في العبادة مثل فتورهم ونومهم وليت جميع حسناتك مثل واحدة من سيئاتهم فمن لم يكن كذلك فليس معهم في الدنيا ولا معهم في الآخرة فسبحان الله‏!‏ كم بين الفريقين من التفاوت فريق خيار الصحابة في العلو عند الله وفريق أمثالكم في السفالة أو يعفو الله الكريم بفضله‏.‏

وبعد‏:‏ فإنك إن زعمت أنك متأس بالصحابة بجمع المال للتعفف والبذل في سبيل الله فتدبر أمرك ويحك هل تجد من الحلال في دهرك كما وجدوا في دهرهم أو تحسب أنك محتاط في طلب الحلال كما احتاطوا لقد بلغني أن بعض الصحابة قال‏:‏ كنا ندع سبعين باباً من الحلال مخافة أن نقع في باب من الحرام أفتطمع من نفسك في مثل هذا الاحتياط لا ورب الكعبة ما أحسبك كذلك‏!‏ ويحك‏!‏ كن على يقين أن جمع المال لأعمال البر مكر من الشيطان ليوقعك بسبب البر في اكتساب الشبهات الممزوجة بالسحت والحرام وقد بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏"‏ من اجترأ على الشبهات أوشك أن يقع في الحرام أيها المغرور أما علمت أن خوفك من

اقتحام الشبهات أعلى وأفضل وأعظم لقدرك عند الله من اكتساب الشبهات وبذلها في سبيل الله وسبيل البر بلغنا ذلك عن بعض أهل العلم قال‏:‏ لأن تدع درهماً واحداً مخافة أن لا يكون حلالاً خير لك من أن تتصدق بألف دينار من شبهة لا تدري أيحل لك أم لا فإن زعمت أنك أتقى وأورع من أن تتلبس بالشبهات وإنما تجمع المال بزعمك من الحلال للبذل في سبيل الله‏!‏ ويحك‏!‏ إن كنت كما زعمت بالغاً في الورع فلا تتعرض للحاسب فإن خيار الصحابة خافوا المسألة وبلغنا أن بعض الصحابة قال‏:‏ ما سرني أن أكتسب كل يوم ألف دينار من حلال وأنفقها في طاعة الله ولم يشغلني الكسب عن صلاة الجمعة قالوا‏:‏ ولم ذاك رحمك الله قال‏:‏ لأني غني عن مقام يوم القيامة فيقول عبدي من أين اكتسبت وفي أي شيء أنفقت فهؤلاء المتقون كانوا في جدة الإسلام والحلال موجود لديهم تركوا المال وجلا من الحساب مخافة أن لا يقوم خير المال بشره وأنت بغاية الأمن والحلال في دهرك مفقود‏.‏

تتكالب على الأوساخ ثم تزعم أنك تجمع المال من حلال ويحك‏!‏ أين الحلال فتجمعه‏.‏

وبعد‏:‏ فلو كان الحلال موجوداً لديك أما تخاف أن يتغبر عند الغنى قلبك وقد بلغنا أن بعض الصحابة كان يرث المال الحلال فيتركه مخافة أن يفسد قلبه أفتطمع أن يكون قلبك أنقى من قلوب الصحابة فلا يزول عن شيء من الخلق في أمرك وأحوالك لئن ظننت ذلك لقد أحسنت الظن بنفسك الأمارة بالسوء ويحك‏!‏ إني لك ناصح أرى لك أن تقنع بالبلغة ولا تجمع المال لأعمال البر ولا تتعرض للحساب فإنه بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ‏"‏ من نوقش الحساب عذب وقال عليه السلام ‏"‏ يؤتى برجل يوم القيامة وقد جمع مالاً من حرام وأنفقه في حرام فيقال اذهبوا به إلى النار ويؤتى برجل قد جمع مالاً من حلال وأنفقه في حرام فيقال اذهبوا به إلى النار ويؤتى برجل قد جمع مالاً من حرام وأنفقه في حلال فيقال اذهبوا به إلى النار ويؤتى برجل قد جمع مالاً من حلال وأنفقه في حلال فيقال له‏:‏ قف لعلك قصرت في طلب هذا بشيء مما فرضت عليك من صلاة لم تصلها لوقتها وفرطت في شيء من ركوعها وسجودها ووضوئها فيقول‏:‏ لا يا رب كسبت من حلال وأنفقت في حلال ولم أضيع شيئاً فرضت علي فيقال‏:‏ لعلك اختلت في هذا المال في شيء من مركب أو ثوب باهيت به فيقول‏:‏ لا يا رب لم أختل ولم أباه في شيء فيقال‏:‏ لعلك منعت حق أحد أمرتك أن تعطيه من ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل فيقول‏:‏ لا يا رب كسبت من حلال وأنفق في حلال ولم أضيع شيئاً مما فرضت علي ولم أختل ولم أباه ولم أضيع حق أحد أمرتني أن أعطيه قال‏:‏ فيجيء أولئك فيخاصمونه فيقولون‏:‏ يا رب أعطيته وأغنيته وجعلته بين أظهرنا وأمرته أن يعطينا فإن كان أعطاهم وما ضيع من ذلك شيئاً من الفرائض ولم يختل في شيء فيقال‏:‏ قف الآن هات شكر كل نعمة أنعمتها عليك من أكلة أو شربة أو لذة فلا يزال يسئل ويحك فمن ذا الذي يتعرض لهذه المسألة التي كانت لهذا الرجل الذي تقلب في الحلال وقام بالحقوق كلها وأدى الفرائض بحدودها حوسب هذه المحاسبة فكيف ترى يكون حال أمثالها الغرقى في فتن الدنيا وتخاليطها وشبانها وشهواتها وزينتها ويحك لأجل هذه المسائل يخاف المتقون أن يتلبسوا بالدنيا فرضوا بالكفاف منها وعملوا بأنواع البر من كسب المال فلك ويحك بهؤلاء الأخيار أسوة فإن أبيت ذلك وزعمت أنك بالغ من الورع والتقوى ولم تجمع المال إلا من حلال - بزعمك - للتعفف والبذل في سبيل الله ولم تنفق شيئاً من الحلال إلا بحق ولم يتغير بسبب المال قلبك عما يحب الله ولم تسخط الله في شيء من سرائرك وعلانيتك ويحك فإن كنب كذلك ولست كذلك فقد ينبغي لك أن ترضى بالبلغة وتعتزل ذوي الأموال إذا وقفوا للسؤال وتسق مع الرعيل الأول في زمرة المصطفى لا حبس عليك للمسألة والحساب فإما سلامة وإما عطب‏.‏

فإنه بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏"‏ يدخل صعاليك المهاجرين قبل أغنيائهم الجنية بخمسمائة عام وقال عليه السلام ‏"‏ يدخل فقراء المؤمنين الجنة قبل أغنيائهم فيأكلون ويتمتعون والآخرون جثاة على ركبهم فيقولون قبلكم طلبتي أنتم حكام الناس وملوكهم فأروني ماذا صنعتم فيما أعطيتكم ‏.‏

وبلغنا أن بعض أهل العلم قال‏:‏ ما سرني أن لي حمر النعم ولا أكون في الرعيل الأول مع محمد عليه السلام وحزبه‏.‏

يا قوم فاستبقوا السباق مع المخفين في زمرة المرسلين عليهم السلام وكونوا وجلين من التخلف والانقطاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجل المتقين‏.‏

لقد بلغني أن بعض الصحابة وهو أبو بكر رضي الله عنه عطش فاستسقى فأتي بشربة من ماء وعسل فلما ذاقه خنقته العبرة ثم بكى وأبكى ثم مسح الدموع عن وجهه وذهب ليتكم فعاد في البكاء فلما أكثر البكاء قيل له‏:‏ أكل هذا من أجل هذه الشربة قال‏:‏ نعم بينا أنا ذات يوم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وما معه أحد في البيت غيري فجعل يدفع عن نفسه وهو يقول ‏"‏ إليك عني‏!‏ ‏"‏ فقلت له‏:‏ فداك أبي وأمي ما أرى بين يديك أحداً فمن تخاطب فقال ‏"‏ هذه الدنيا تطاولت إلي بعنقها ورأسها فقالت لي‏:‏ يا محمد خذني فقلت‏:‏ إليك عني فقالت‏:‏ إن تنج مني يا محمد فإنه لا ينجو مني من بعدك ‏"‏ فأخاف أن تكون هذه قد لحقتني تقطعني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يا قوم فهؤلاء الأخبار بكوا وجلا أن تقطعهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شربة من حلال‏!‏ ويحك أنت في أنواع من النعم والشهوات من مكاسب السحت والشبهات لا تخشى الانقطاع أف لك ما أعظم جهلك‏!‏ ويحك فإن تخلفت في القيامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد المصطفى لتنظرن إلى أهوال جزعت منها الملائكة والأنبياء ولئن قصرت عن السباق فليطولن عليك اللحاق ولئن أردت الكثرة لتصيرن إلى حساب عسير ولئن لم تقنع بالقليل لتصيرن إلى وقوف طويل وصراخ وعويل ولئن رضيت بأحوال المتخلفين لتقطعن عن أصحاب اليمين وعن رسول رب العالمين ولتبطئن عن نعيم المتنعمين ولئن خالفت أحوال المتقين لتكونن من المحتسبين في أهوال يوم الدين‏.‏

فتدب رويحك ما سمعت وبعد‏.‏

فإن زعمت أنك في مثال خيار السلف قانع بالقليل زاهد في الحلال بذول لما لك مؤثر على نفسك لا تخشى الفقر ولا تدخر شيئاً لغدك مبغض للتكاثر والغنى راض بالفقر والبلاء فرح بالقلة والمسكنة مسرور بالذل والضعة كاره للعلو والرفعة قوي في أمرك لا يتغير عن الرشد قلبك قد حاسبت نفسك في الله وحكمت أمورك كلها على ما وافق رضوان الله ولن توقف في المسألة ولن يحاسب مثلك من المتقين‏.‏

وإنما تجمع المال الحلال للبذل في سبيل الله ويحك أيها المغرور فتدبر الأمر وأمعن النظر‏!‏ أما علمتأن ترك الاشتغال بالمال وفراغ القلب للذكر والتذكر والتذكار والفكر والاعتبار‏.‏

أسلم للدين وأيسر للحساب وأخف للمسألة وآمن من روعات القيامة وأجزل للثواب وأعلي لقدرك عند الله أضعافاً‏.‏

بلغنا عن بعض الصحابة أنه قال‏:‏ لو أن رجلاً في حجره دنانير يعطيها والآخر يذكر الله لكان الذاكر أفضل‏.‏

وسئل بعض أهل العلم عن الرجل يجمع المال لأعمال البر قال تركه أبر به‏.‏

وبلغنا أن بعض خيار التابعين سئل عن رجلين أحدهما طلب الدنيا حلالاً فأصابها فوصل بها رحمه وقدم لنفسه‏.‏

وأما الآخر فإنه جانبها فلم يطلبها ولم يتناولها فأيهما أفضل قال‏:‏ بعيد والله ما بينهما الذي جانبها أفضل كما بين مشارق الأرض ومغاربها‏.‏

ويحك فهذا الفضل لك بترك الدنيا على من طلبها ولك في العاجل إن تركت الاشتغال بالمال وإن ذلك أروح لبدنك وأقل لتعبك وأنعم لعيشك وأرضى لبالك وأقل لهمومك فما عذرك في جمع المال وأنت بترك المال أفضل ممن طلب المال لأعمال البر نعم وشغلك بذكر الله أفضل من بذل المال في سبيل الله فاجتمع لك راحة العاجل مع السلامة والفضل في الآجل‏.‏

وبعد‏:‏ فلو كان في جمع المال فضل عظيم لوجب عليك في مكارم الأخلاق أن تتأسى بنبيك إذ هداك الله به وترضى ما اختاره لنفسه من مجانبة الدنيا‏.‏

ويحك‏!‏ تدبر ما سمعت وكن على يقين أن السعادة والفوز في مجانبة الدنيا فسر مع لواء المصطفى سابقاً إلى جنة المأوى‏.‏

فإنه بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏"‏ سادات المؤمنين في الجنة من إذا تغدى لم يجد عشاء وإذا استقرض لم يجد قرضاً وليس له فضل كسوة إلا ما يواريه ولم يقدر على أن يكتسب ما

يغنيه يمسي مع ذلك ويصبح راضياً عن ربه ‏"‏ فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً ‏"‏ ألا يا أخي متى جمعت هذا المال بعد هذا البيان فإنك مبطل فيما ادعيت أنك للبر وللفضل تجمعه لا‏!‏ ولكنك خوفاً من الفقر تجمعه وللنعم والزينة والتكاثر والفخر والعلو والرياء والسمعة والتعظيم والتكرمة تجمعه ثم تزعم إنك لأعمال البر تجمع المال‏:‏ راقب الله واستحي من دعواك أيها المغرور‏.‏

ويحك إن كنت مفتوناً بحب المال والدنيا فكن مقراً أن الفضل والخير في الرضا بالبلغة ومجانبة الفضول نعم وكن عن جمع المال مزرياً على نفسك معترفاً بإساءتك وجلا من الحساب فذلك أنجى لك وأقرب إلى الفضل من طلب الحجج لجمع المال‏.‏

إخواني اعلموا أن دهر الصحابة كان الحال فيه موجوداً وكانوا مع ذلك من أورع الناس وأزهدهم في المباح لهم ونحن في دهر الحلال فيه مفقوداً وكيف لنا من الحلال مبلغ القوت وستر العورة‏.‏

فأما جمع المال في دهرنا فأعاذنا الله وإياكم منه‏.‏

وبعد‏:‏ فأين لنا بمثل تقوى الصحابة وورعهم ومثل زهدهم واحتياطهم وأين لنا مثل ضمائرهم وحسن نياتهم دهينا ورب السماء بأدواء النفوس وأهوائها وعن قريب يكون الورود فيا سعادة المخفين يوم النشور وحزن طويل لأهل التكاثر والتخاليط وقد نصحت لكم إن قبلتم والقابلون فهذا قليل‏.‏

وفقنا الله وإياكم فكل خير برحمته آمين‏.‏

هذا آخر كلامه وفيه كفاية في إظهار فضل الفقر على الغنى ولا مزيد عليه‏.‏

ويشهد لذلك جميع الأخبار التي أوردناها في كتاب ذم الدنيا وفي كتاب الفقر والزهد‏.‏

ويشهد له أيضاً ما روي عن أبي أمامة الباهلي‏:‏ أن ثعلبة بن حاطب قال‏:‏ يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالاً قال ‏"‏ يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه ‏"‏ قال‏:‏ يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالاً قال ‏"‏ يا ثعلبة أما لك في أسوة أما ترضى أن تكون مثل نبي الله تعالى أما والذي نفسي بيده لو شئت أن تسير معي الجبال ذهباً وفضة لسارت ‏"‏ قال‏:‏ والذي بعثك بالحق نبياً لئن دعوت الله أن يرزقني مالاً لأعطين كل ذي حق حقه ولأفعلن ولأفعلن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ اللهم ارزق ثعلبة مالاً ‏"‏ فاتخذ غنماً فنمت كما ينمو الدود فضاقت عليه المدينة فتنحى عنها فنزل واديا من أوديتها حتى جعل يصلي الظهر والعصر في الجماعة ويدع ما سواهما ثم نمت وكثرت فتنحى حتى ترك الجماعة إلا الجمعة وهي تنمو كما ينمو الدود حتى ترك الجمعة وطفق يلقى الركبان يوم الجمعة فيسألهم عن الأخبار في المدينة وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه فقال ‏"‏ ما فعل ثعلبة بن حاطب ‏"‏ فقيل يا رسول الله اتخذ غنماً فضاقت عليه المدينة وأخبر بأمره كله فقال ‏"‏ يا ويح ثعلبة يا ويح ثعلبة يا ويح ثعلبة ‏"‏ قال وأنزل الله تعالى ‏"‏ خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم ‏"‏ وأنزل الله تعالى فرائض الصدقة فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من جهينة ورجلاً من بني سليم على الصدقة وكتب لهما كتاباً بأخذ الصدقة وأمرهما أن يخرجا فيأخذا من المسلمين‏:‏ وقال ‏"‏ مرا بثعلبة بن حاطب وبفلان - رجل من بني سليم - وخذا صدقاتهما‏:‏ فخرجا حتى أتيا ثعلبة فسألاه الصدقة وأقرآه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ما هذه إلا جزية ما هذه إلا جزية ما هذه إلا أخت الجزية‏!‏ انطلقا حتى تفرغا ثم تعودا إلي فانطلقا نحو السليمي فسمع بهما فقام إلى خيار أسنان إبله فعز لها للصدقة ثم استقبلهما بها فلما رأوها قالوا‏:‏ لا يجب عليك ذلك وما نريد نأخذ هذا منك قال بلى خذوها فلما فرغا من صدقاتهما رجعا حتى مرا بثعلبة فسألاه الصدقة فقال‏:‏ أروني كتابكما فنظر فيه فقال‏:‏ هذه أخت الجزية‏!‏ انطلقا حتى أرى رأيي فانطلقا حتى أتيا النبي صلى الله عليه وسلم فلما رآهما قال ‏"‏ يا ويح ثعلبة ‏"‏ قبل أن يكلماه ودعا للسليمي فأخبراه بالذي صنع ثعلبة وبالذي صنع السليمي فأنزل الله تعالى في ثعلبة ‏"‏ ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون ‏"‏ وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من أقارب ثعلبة فسمع ما أنزل الله فيه فخرج حتى أتى ثعلبة فقال‏:‏ لا أم لك يا ثعلبة‏!‏ قد أنزل الله فيك كذا فخرج ثعلبة حتى أتي النبي صلى الله عليه وسلم فسأله أن يقبل منه صدقته فقال ‏"‏ إن الله منعني أن أقبل منك صدقتك فجعل يحثو على التراب على رأسه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ هذا عملك أمرتك فلم تطعني ‏"‏ فلما أبى أن يقبل منه شيئاً رجع إلى منزله فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء بها إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه فأبى أن يقبل منه شيئاً رجع إلى منزله فلما قبض صلى الله عليه وسلم جاء بها إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه فأبى أن يقبلها منه وجاء بها إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأبى أن يقبلها منه وتوفي ثعلبة بعد في خلافه عثمان فهذا طغيان المال وشؤمه وقد عرفته من هذا الحديث ولأجل بركة الفقر وشؤم الغني آثر رسول الله صلى الله عليه وسلم الفقر لنفسه ولأهل بيته حتى روى عن عمران بن حصين رضى الله عنه أنه قال‏:‏ كانت لي من رسول الله منزلة وجاه فقال ‏"‏ يا عمران إن لك عندنا منزلة وجاهاً فهل لك في عيادة فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ فقلت‏:‏ نعم بأبي أنت وأمي يا رسول الله فقام وقمت معه حتى وقفت بباب منزل فاطنة فقرع الباب وقال ‏"‏ السلام عليكم أأدخل ‏"‏ فقالت‏:‏ ادخل يا رسول الله قال أنا ومن معي ‏"‏ قالت ومن معك يا رسول الله فقال عمران بن حصين فقالت‏:‏ والذي بعثك بالحق نبياً ما علي إلا عباءة‏!‏ فقال اصنعي بها هكذا وهكذا وأشار بيده فقالت‏:‏ هذا جسدي فقد واريته فكيف برأسي فألقى إليها ملاءة كانت عليه خلقة فقال ‏"‏ شدي بها على رأسك ‏"‏ ثم أذنت له فدخل فقال ‏"‏ السلام عليك يا بنتاه كيف أصبحت ‏"‏ قالت‏:‏ أصبحت والله وجعة وزادني وجعاً على ما بي أني لست أقدر على طعام آكله فقد أجهدني الجوع فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال ‏"‏ لا تجزعي يا بنتاه فوالله ما ذقت طعاماً منذ ثلاثة وإني لأكرم على الله منك ولو سألت ربي لأطعمني ولكني آثرت الآخرة على الدنيا ثم ضرب بيده على منكبها وقال لها ‏"‏ أبشري فوالله إنك لسيدة نساء أهل الجنة ‏"‏ فقالت‏:‏ فأين آسية امرأة فرعون ومريم ابنة فرعون فقال ‏"‏ آسية سيدة نساء عالمها ومريم سيد نساء عالمها وخديجة سيدة نساء عالمها وأنت سيدة نساء عالمك إنكن في بيوت منن قصب لا أذى فيها ولا صخب ثم قال لها ‏"‏ اقنعي بابن عمك فواالله لقد زوجتك سيداً في الدنيا سيداً في الآخرة فانظر الآن إلى حال فاطمة رضي الله عنها وهي بضعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف آثرت الفقر وتركت المال ومن راقب أحوال الأنبياء والأولياء وأقوالهم وما ورد من أخبارهم وآثارهم لم يشك في أن فقد المال أفضل من وجوده وإن صرف إلى الخيرات إذ أقل ما فيه من أداء الحقوق والتوقي من الشبهات والصرف إلى الخيرات اشتغال الهم بإصلاحه وانصرافه عن ذكر الله إذ لا ذكر إلا مع الفراغ ولا فراغ مع شغل المال‏.‏

وقد روي عن جرير عن ليث قال‏:‏ صحب رجل عيسى ابن مريم عليه السلام فقال‏:‏ أكون معك وأصحابك فانطلقا فانتهيا إلى شط نهر فجلسا يتغديان ومعهما ثلاثة أرغفة فأكلا رغيفين وبقي رغيف ثالث فقام عيسى عليه السلام إلى النهر فشرب ثم رجع فلم يجد الرغيف فقال للرجل‏:‏ من أخذ الرغيف فقال‏:‏ لا أدري قال‏:‏ فانطلق ومعه صاحبه فرأى ظبية ومعها خشفان لها قال‏:‏ فدعا أحدهما فأتاه فذبحه فاشتوى منه فأكل هو وذلك الرجل ثم قال للخشف‏:‏ ثم بإذن الله فقام فذهب فقال للرجل‏:‏ أسألك بالذي أراك هذه الآية من أخذ الرغيف فقال‏:‏ لا أدري ثم انتهيا إلى وادي ماء فأخذ عيسى بيد الرجل فمشيا على الماء فلما جاوزوا قال له أسألك بالذي أراك هذه الآية من أخذ الرغيف فقال لا أدري فانتهيا إلى مفازة فجلسا فأخذ عيسى عليه السلام يجمع تراباً وكثيباً ثم قال كن ذهباً بإذن الله تعالى فصار ذهباً فسمه ثلاثة أثلاث ثم قال ثلث لي وثلث لك وثلث لمن أخذ الرغيف فقال أنا الذي أخذت الرغيف فقال كله لك وفارقه عيسى عليه السلام فانتهى إليه رجلان في المفازة ومعه المال فأرادا أن يأخذاه منه ويقتلاه فقال هو بيننا أثلاثاً فابعثوا أحدكم إلى القرية حتى يشتري لنا طعاماً نأكله قال فبعثوا أحدهم فقال الذي بعث لأي شيء أقاسم هؤلاء هذا المال لكني أضع في هذا الطعام سماً فأقتلهما وآخذ المال وحدي قال ففعل وقال ذانك الرجلان لأي شيء نجعل لهذا ثلث المال ولكن إذا رجع قتلناه واقتسمنا المال بيننا قال فلما رجع إليهما قتلاه وأكلا الطعام فماتا فبقي ذلك المال في المفازة وأولئك الثلاثة عنده قتلى فمر بهم عيسى عليه وحكي أن ذا القرنين أتى على أمة من الأمم ليس بأيديهم شيء مما يستمتع به الناس من دنياهم قد احتفروا قبرواً فإذا أصبحوا تعهدوا تلك القبور وكنسوها وصلوا عندها ورعوا البقل كما ترعى البهائم وقد قيض لهم في ذلك معايش من نبات الأرض وأرسل ذو القرنين إلى ملكهم فقال له أجب ذو القرنين فقال ما لي إليه حاجة فإن كان له حاجة فليأتني‏!‏ فقال ذو القرنين صدق فأقبل إليه ذو القرنين وقال له أرسلت إليك لتأتيني فأبيت فها أنا قد جئت فقال لو كان لي إليك حاجة لأتيتك فقال له ذو القرنين ما لي أراكم على حالة لم أر أحداً من الأمم عليها قال وما ذاك قال ليس لكم دنيا ولا شيء أفلا اتخذتم الذهب والفضة فاستمتعتم بهما قالوا إنما كرهناهما لأن أحداً لم يعط منهما شيئاً إلا تاقت نفسه ودعته إلى ما هو أفضل منه‏.‏

فقال ما بالكم قد احتقرتم قبوراً فإذا أصبحتم تعاهدتموها فكنستموها وصليتم عندها قالوا أردنا إذا نظرنا إليها وأملنا الدنيا منعتنا قبورنا من الأمل‏.‏

قال وأراكم لا طعام لكم إلا البقل من الأرض‏.‏

أفلا اتخذتم البهائم من الأنعام فاحتلبتموها وركبتموها فاستمتعتم بها قالوا كرهنا أن نجعل بطوننا قبوراً لها ورأينا في نبات الأرض بلاغاً وإنما يكفي ابن أدنى العيش من الطعام وأيما ما جاوز الحنك من الطعام لم نجد له طعماً كائناً ما كان من الطعام ثم بسط ملك تلك الأرض يده خلف ذي القرنين فتناول جمجمة فقال‏:‏ يا ذا القرنين أتدري من هذا قال‏:‏ لا ومن هو قال‏:‏ ملك من ملوك الأرض أعطاه الله سلطاناً على أهل الأرض فغشم وظلم وعتا فلما رأى الله سبحانه ذلك منه جسمه بالموت فصار كالحجر الملقى وقد أحصى الله عليه عمله حتى يجزيه به في آخرته‏.‏

ثم تناول جمجمة أخرى بالية فقال‏:‏ يا ذا القرنين هل تدري من هذا قال‏:‏ لا أدري ومن هو قال‏:‏ هذا ملك ملكه الله بعده قد كان يرى ما يصنع الذي قبله بالناس من الغشم والظلم والتجبر فتواضع وخشع لله عز وجل وأمر بالعدل في أهل مملكته فصار كما ترى قد أحصى الله عليه عمله حتى يجزيه في آخرته‏.‏

ثم أهوى إلى جمجمة ذي القرنين فقال‏:‏ وهذه الجمجمة قد كانت كهذين فانظر يا ذا القرنين ما أنت صانع فقال له ذو القرنين‏:‏ هل لك في صبحتي فأتخذك أخاً ووزيراً وشريكاً فيما أتاني الله من هذا المال قال‏:‏ ما أصلح أنا وأنت في مكان ولا أن نكون جميعاً قال ذو القرنين‏:‏ ولم قال‏:‏ من أجل أن الناس كلهم لك عدو ولي صديق قال‏:‏ ولم قال‏:‏ يعادونك لما في ديك من الملك والمال والدنيا‏!‏ ولا أجد أحداً يعاديني لرفضي لذلك ولما عندي من الحاجة وقلة الشيء قال‏:‏ فانصرف عنه ذو القرنين متعجباً منه ومتعظاً به فهذه الحكايات تدلك على آفات الغنى مع ما قدمناه من قبل وبالله التوفيق‏.‏

تم كتاب ذم المال والبخل بحمد الله تعالى وعونه ويليه كتاب ذم الجاه والرياء‏.‏

كتاب ذم الجاه والرياء

وهو الكتاب الثامن من ربع المهلكات من كتاب إحياء علوم الدين

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله علام الغيوب المطلع على سرائر القلوب المتجاوز عن كبائر الذنوب العالم بما تجنه الضمائر من خفايا الغيوب البصير بسرائر النيات وخفايا الطويات الذي لا يقبل من الأعمال إلا ما كمل ووفي وخلص عن شوائب الرياء والشرك وصفا فإنه المنفرد بالملكوت فهو أغنى الأغنياء عن الشرك‏.‏

والصلاة والسلام على محمد وآله وأصحابه المبرئين من الخيانة والإفك وسلم تسليماً كثيراً‏.‏

أما بعد‏:‏ فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن أخوف ما أخاف على أمتي الرياء والشهوة الخفية التي هي أخفى من دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء ولذلك عجز عن الوقوف على غوائلها سماسرة العلماء فضلاً عن عامة العباد والأتقياء وهو من أواخر غوائل النفس وبواطن مكاديها‏.‏

وإنما يبتلي به العلماء والعباد والمشمرون عن ساق الجد لسلوك سبيل الآخرة فإنهم مهما قهروا أنفسهم وجاهدوها وفطموها عن الشهوات وصانوها عن الشهبات وحملوها بالقهر وعلى أصناف العبادات عجزت نفوسهم عن الطمع في المعاصي الظاهرة الواقعة على الجوارح فطلبت الاستراحة إلى التظاهر بالخير وإظهار العمل والعلم فوجدت مخلصاً من مشقة المجاهدة إلى لذة القبول عند الخلق ونظرهم إليه بعين الوقار والتعظيم فسارعت إلى إظهار الطاعة وتوصلت إلى اطلاع الخلق ولم تقنع باطلاع الخالق وفرحت بحمد الناس ولم تقنع بحمد الله وحده وعلمت أنهم إذا عرفوا تركه الشهوات وتوقيه الشبهات وتحمله

مشاق العبادات أطلقوا ألسنتهم بالمدح والثناء وبالغوا في التقريظ والإطراء ونظروا إليه بعين التوقير والاحترام وتبركوا بمشاهدته ولقائه ورغبوا في بركة دعائه وحرصوا على اتباع رأيه وفاتحوه بالخدمة والسلام وأكرموه في المحافل غاية الإكرام وسامحوه في البيع والمعاملات وقدموه في المجالس وآثروه بالمطاعم والملابس وتصاغروا له متواضعين وانقادوا له في أغراضه موقرين فأصابت النفس في ذلك لذة هي أعظم اللذات وشهوة هي أغلب الشهوات فاستحقرت فيه ترك المعاصي والهفوات واستلانت خشونة المواظبة على العبادات لإدراكها في الباطن لذة اللذات وشهوة الشهوات فهو يظن أن حياته بالله وبعبادته المريضة وإنما حياته بهذه الشهوة الخفية التي تعمى عن دركها العقول النافذة القوية ويرى أنه مخلص في طاعة الله ومجتنب لمحارم الله والنفس قد أبطنت هذه الشهوة تزييناً للعباد وتصنعاً للخلق وفرحاً بما نالت من المنزلة والوقار وأحبطت بذلك ثواب الطاعات وأجور الأعمال وقد أثبتت اسمه في جريد المنافقين وهو يظن أنه عند الله من المقربين‏.‏

وهذه مكيدة للنفس لا يسلم منها إلا الصديقون ومهواة لا يرقى منها إلا المقربون ولذلك قيل‏:‏ آخر ما يخرج من رؤوس الصديقين حب الرياسة‏.‏

وإذا كان الرياء هو الداء الدفين الذي هو أعظم شبكة للشيطانين وجب شرح القول في سببه وحقيقته ودرجاته وأقسامه وطرق معالجته والحذر منه ويتضح الغرض منه في ترتيب الكتاب على شطرين

الشطر الأول في حب الجاه والشهرة

وفيه بيان ذم الشهرة وبيان فضيلة الخمول وبيان ذم الجاه وبيان معنى الجاه وحقيقته وبيان السبب في كونه محبوباً أشد من حب المال وبيان أن الجاه كمال وهمي وليس بكمال حقيقي وبيان ما يحمد من حب الجاه وما يذم وبيان السبب في حب المدح والثناء وكراهية الذم‏.‏

وبيان العلاج في حب الجاه وبيان علاج حب المدح وبيان علاج كراهة الذم وباين اختلاف أحوال الناس في المدح والذم‏.‏

فهي إثنا عشر فصلاً منها تنشأ معاني الرياء فلا بد من تقديمها والله الموفق للصواب بلطفه ومنه وكرمه‏.‏

بيان ذم الشهرة وانتشار الصيت

اعلم أصلحك الله أن أصل الجاه هو انتشار الصيت والاشتهار وهو مذموم بل المحمود الخمول إلا من شهرة الله تعالى لنشر دينه م غير تكلف طلب الشهرة منه‏.‏

قال أنس رضي الله عنه‏:‏ قال رسو الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ حسب امرئ من الشر أن يشير الناس إليه بالأصابع في دينه ودنياه إلا من عصمه الله وقال جابر بن عبد الله‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ يحسب المرء من الشر إلا من عصمه الله من السوء أن يشير الناس إليه بالأصابع في دينه ودنياه‏.‏

إن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ولكن ذكر الحسن رحمه الله الحديث تأويلاً ولا بأس به إذ روى هذا الحديث فقيل له‏:‏ يا أبا سعيد إن الناس إذا رأوك أشاروا إليك بالأصابع فقال‏:‏ إنه لم يعن هذا وإنما عنى به المبتدع في دينه والفاسق في دنياه وقال علي كرم الله وجهه‏:‏ تبذل ولا تشتهر ولا ترفع شخصك لتذكر وتعلم واكتم واصمت تسلم تسر الأبرار وتغيظ الفجار‏.‏

وقال إبراهيم ابن أدهم رحمه الله‏:‏ ما صدق الله من أحب الشهرة‏.‏

وقال أيوب السختياني‏:‏ والله ما صدق الله عبد إلا سره أن لا يشعر بمكانه‏.‏

وعن خالد بن معدان أنه كان إذا كثرت حلقته قام مخافة الشهرة‏.‏

وعن أبي العالية أنه كان إذا جلس إليه أكثر من ثلاثة قام‏.‏

ورأى طلحة قوماً يمشون معه نحواً من عشرة فقال‏:‏ ذياب طمع وفراش نار‏.‏

وقال سليم بن حنظلة‏:‏ بينا نحن حول أبي بن كعب نمشي خلفه إذ رآه عمر فعلاه بالدرة‏.‏

فقال أنظر يا أمير المؤمنين ما تصنع فقال‏:‏ إن هذه ذلة للتابع وفتنة للمتبوع وعن الحسن قال‏:‏ خرج ابن مسعود يوماً من منزله فاتبعه ناس فالتفت إليهم فقال‏:‏ علام تتبعوني فوالله لو تعلمون ما أغلق عليه باب ما اتبعني منكم رجلان وقال الحسن‏:‏ إن خفق النعال حول الرجال قلما تلبث عليه قلوب الحمقى‏.‏

وخرج الحسن ذات يوم فاتبعه قوم فقال‏:‏ هل لكم من حاجة وإلا فما عسى أن يبقى هذا من قلب المؤمن‏.‏

وروي أن رجلاً صحب ابن محيريز في سفر فلما فارقه قال‏:‏ أوصني فقال‏:‏ إن استطعت أن تعرف ولا تعرف وتمشي ولا يمشي إليك وتسأل ولا تسئل فافعل‏.‏

وخرج أيوب في سفر فشيعه ناس كثيرون فقال‏:‏ لولا أني أعلم أن الله يعلم من قلبي أني لهذا كاره لخشيت المقت من الله عز وجل‏.‏

وقال معمر‏:‏ عاتبت أيوب على طول قميصه فقال‏.‏

إن الشهرة فيما مضى كانت في طوله وهي اليوم في تشميره‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ كنت مع أبي قلابة إذ دخل عليه رجل عليه أكسية فقال‏:‏ إياكم وهذا الحمار الناهق‏!‏ يشير به إلى طلب الشهرة‏.‏

وقال الثوري‏:‏ كانوا يكرهون الشهرة من الثياب الجيدة والثياب الرديئة إذ الأبصار تمتد إليهما جميعاً‏.‏

وقال رجل لبشر بن الحارث‏:‏ أوصني فقال أخمل ذكرك وطيب مطعمك‏.‏

وكان حوشب يبكي ويقول‏:‏ بلغ اسمي مسجد الجامع‏.‏

وقال بشر‏:‏ ما أعرف رجلاً أحب أن يعرف إلا ذهب دينه وافتضح‏.‏

وقال أيضاً‏:‏ لا يجد حلاوة الآخرة رجل يحب أن يعرفه الناس‏.‏

رحمة الله عليه وعليهم أجمعين‏.‏

بيان فضيلة الخمول

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ رب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره منهم البراء بن مالك ‏"‏ وقال ابن مسعود‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ رب ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره لو قال اللهم إني أسألك الجنة لأعطاه الجنة ولم يعطه من الدنيا شيئاً وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ألا أدلكم على أهل الجنة‏:‏ كل ضعيف مستضعف لو أقسم على الله لأبره وأهل النار كل متكبر مستكبر جواظ وقال أبو هريرة‏:‏ قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن أهل الجنة كل أشعث غير ذي طمرين لا يؤبه له الذي إذا استأذنوا على الأمراء لم يؤذن لهم وإذا خطبوا النساء لم ينكحوا وإذا قالوا لم ينصت لقولهم حوائج أحدهم تتخلل في صدره لو قسم نوره يوم القيامة على الناس لوسعهم ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن من أمتي من لو أتى أحدكم يسأله ديناراً لم يعطه إياه ولو سأله فلساً لم يعطه إياه ولو سأل الله الجنة لأعطاه إياها ولو سأله الدنيا لم يعطه إياها وما منعها إياه إلا لهوانها عليه رب ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره وروي أن عمر رضي الله عنه دخل المسجد فرأى معاذ بن جبل يبكي عند قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ما يبكيك فقال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ‏"‏ إن اليسير من الرياء شرك وإن الله يحب الأتقياء الأخفياء الذين إن غابوا لم يفتقدوا وإن حضروا لم يعرفوا قلوبهم مصابيح الهدى ينجون من كل غبراء مظلمة‏.‏

وقال محمد بن سويد‏:‏ قحط أهل المدينة وكان بها رجل صالح لا يؤبه له ملازم لمسجد النبي صلى الله عليه وسلم فبينما هم في دعائهم إذ جاءهم رجل عليه طمران خلقان فصلى ركعتين أوجز فيهما ثم بسط يديه فقال‏:‏ يا رب أقسمت عليك إلا أمطرت علينا الساعة‏!‏ فلم يرد يديه ولم يقطع دعاءه حتى تغشت السماء بالغمام وأمطروا حتى صاح أهل المدينة من مخافة الغرق فقال‏:‏ يا رب إن كنت تعلم أنهم قد اكتفوا فارفع عنهم وسكن وتبع الرجل صاحبه الذي استسقى حتى عرف منزله ثم بكر عليه فخرج إليه فقال إني أتيك في حاجة‏!‏ فقال ما هي قال تخصني بدعوة قال‏:‏ سبحان الله‏!‏ أنت أنت وتسألني أن أخصك بدعوة ثم قال ما الذي بلغك ما رأيت قال‏:‏ أطع الله فيما أمرني ونهاني فسألت الله فأعطاني‏.‏

وقال ابن مسعود‏:‏ كونوا ينابيع العلم مصابيح الهدى أحلاس البيوت سرج الليل جدد القلوب خلقان الثياب تعرفون في أهل السماء وتخفون في أهل الأرض‏.‏

وقال أبو أمامة‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ يقول الله تعالى إن أغبط أوليائي عبد مؤمن خفيف الحاذر ذو حظ من صلاة أحسن عبادة ربه وأطاعه في السر كان غامضاً في الناس لا يشار إليه بالأصابع ثم صبر على ذلك ‏"‏ قال‏:‏ ثم نقر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده فقال ‏"‏ عجلت منينه وقل تراثه وقلت بواكيه وقال عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما‏:‏ أحب عباد الله إلى الله الغرباء قيل‏:‏ ومن الغرباء‏:‏ قال‏:‏ الفارون بدينهم يجتمعون يوم القيامة إلى المسيح عليه السلام‏.‏

وقال الفضيل بن عياض‏:‏ بلغني أن الله تعالى يقول في بعض ما يمن به على عبده ألم أنعم عليك‏!‏ ألم أسترك‏!‏ ألم أخمل ذكرك‏!‏ وكان الخليل بن أحمد يقول‏:‏ اللهم اجعلني عندك من أرفع خلقك واجعلني عند نفسي من أوضع خلقك واجعلني عند الناس من أوسط خلقك‏.‏

وقال الثوري‏:‏ وجدت قلبي يصلح بمكة والمدينة

مع قوم غرباء أصحاب قوت وعناء‏.‏

وقال إبراهيم بن أدهم‏:‏ ما قرت عيني يوماً في الدنيا قط إلا مرة بت ليلة في بعض مساجد قرى الشام وكان بي البطن فجرني المؤذن برجلي حتى أخرجني من المسجد‏.‏

وقال الفضيل‏:‏ إن قدرت على أن لا تعرف فافعل وما عليك أن لا تعرف وما عليك أن لا يثنى عليك وما عليك أن تكون مذموماً عند الناس إذا كنت محموداً عند الله تعالى فهذه الآثار والأخبار تعرفك مذمة الشهرة وفضيلة الخمول‏.‏

وإنما المطلوب بالشهرة وانتشار الصيت هو الجاه والمنزلة في القلوب وحب الجاه هو منشأ كل فساد‏.‏

فإن قلت‏:‏ فأي شهرة تزيد على شهرة الأنبياء والخلفاء الراشدين وأئمة العلماء‏!‏ فكيف فاتهم فضيلة الخمول فاعلم أن المذموم طلب الشهرة فأما وجودها من جهة الله سبحانه من غير تكلف من العبد فليس بمذموم‏.‏

نعم فيه فتنة على الضعفاء دون الأقوياء وهم كالغريق إذا كان معه جماعة منن الغرقى فالأولى به أن لا يعرفه أحد منهم فإنهم يتعلقون به فيضعف عنهم فيهلك معهم وأما القوي فالأولى أن يعرفه الغرقى ليتعلقوا به فينجيهم ويثاب على ذلك‏.‏

بيان ذم الجاه ومعناه

قال الله تعالى ‏"‏ تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً ‏"‏ جمع بين إرادة الفساد والعلو وبين أن الدار الآخرة للخالي عن الإرادتين جميعاً‏.‏

وقال عز وجل ‏"‏ من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون‏.‏

أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون ‏"‏ وهذا أيضاً متناول بعمومه لحب الجاه فإنه أعظم لذة من لذات الحياة الدنيا وأكثر زينة من زينتها‏.‏

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ حب المال والجاه ينبتان النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ما ذئبان ضاريان أرسلاً في زريبة غنم بأسرع إفساداً من حب الشرف والمال في دين الرجل المسلم وقال صلى الله عليه وسلم لعلي كرم الله وجهه ‏"‏ إنما هلاك الناس باتباع الهوى وحب الثناء نسأل الله العفو والعافية بمنه وكرمه‏.‏

بيان معنى الجاه وحقيقته

اعلم أن الجاه والمال هما ركنا الدنيا‏.‏

ومعنى المال ملك الأعيان المنتفع بها ومعنى الجاه ملك القلوب المطلوب تعظيمها وطاعتها‏.‏

وكما أن الغني هو الذي يملك الدراهم والدنانير أي يقدر عليهما ليتوصل بهما إلى الأغراض والمقاصد وقضاء الشهوات وسائر حظوظ النفس فكذلك ذو الجاه هو الذي يملك قلوب الناس أي يقدر على أن يتصرف فيها ليستعمل بواسطتها أربابها في أغراضه ومآربه‏.‏

وكما أنه يكتسب الأموال بأنواع من الحرف والصناعات فكذلك يكتسب قلوب الخلق بأنواع من المعاملات ولا تصير القلوب مسخرة إلا بالمعارف والاعتقادات فكل من اعتقد القلب فيه وصفاً من أوصاف الكمال انقاد له وتسخر له بحسب قوة اعتقاد القلب وبحسب درجة ذلك الكمال عنده وليس يشترط أن يكون الوصف كمالاً في نفسه بل يكفي أن يكون كمالاً عنده وفي اعتقاده وقد يعتقد ما ليس كمالاً كمالاً ويذعن قلبه للموصوف به انقياداً ضرورياً بحسب اعتقاده فإن انقياد القلب حال للقلب‏.‏

وأحوال القلوب تابعة لاعتقادات القلوب وعلومها وتخيلاتها وكما أن محب المال يطلب ملك الأرقاء والعبيد فطالب الجاه يطلب أن يسترق الأحرار ويستعبدهم ويملك رقابهم بملك قلوبهم بل الرق الذي يطلبه صاحب الجاه أعظم لأن المالك يملك العبد قهراً والعبد متأب بطبعه ولو خلى ورأيه انسل عن الطاعة وصاحب الجاه يطلب الطاعة طوعاً ويبغي ان كون له الأحرار عبيداً بالطبع والطوع مع الفرح بالعبودية والطاعة له فما يطلبه فوق ما يطلبه مالك الرق بكثير‏.‏

فإذاً معنى الجاه‏:‏ قيام المنزلة في قلوب الناس أي اعتقاد القلوب لنعت من نعوت الكمال فيه فبقدر ما يعتقدون من كماله تذعن له قلوبهم وبقدر إذعان القلوب تكون قدرته على القلوب وبقدر قدرته على القلوب يكون فرحه وحبه للجاه‏.‏

فهذا هو معنى الجاه وحقيقته وله ثمرات كالمدح والإطراء فإن المعتقد للكمال لا يسكت عن ذكر ما يعتقده فيثني عليه وكالخدمة والإعانة فإنه لا يبخل ببذل نفسه في طاعته بقدر اعتقاده فيكون سخرة له مثل العبد في أغراضه وكالإيثار وترك المنازعة والتعظيم والتوقير بالمفاتحة بالسلام وتسليم الصدر في المحافل والتقديم في جميع المقاصد فهذه آثار تصدر عن قيام الجاه في القلب ومعنى قيام الجاه في القلب اشتمال القلوب على اعتقاد صفات الكمال في الشخص إما بعلم أو عبادة أو حسن خلق أو نسب أو ولاية أو جمال في صورة أو قوة في بدن أو شيء مما يعتقده الناس كمالاً فإن هذه الأوصاف كلها تعظم محله في القلوب فتكون سبباً لقيام الجاه والله تعالى أعلم‏.‏

بيان سبب كون الجاه محبوباً بالطبع حتى لا يخلو عنه قلب إلا بشديد المجاهدة

اعلم أن السبب الذي يقتضي كون الذهب والفضة وسائر أنواع الأموال محبوباً هو بعينه يقتضي كون الجاه محبوباً بل يقتضي أن يكون أحب من المال كما يقتضي أن يكون الذهب أحب من

الفضة مهما تساويا في المقدار وهو أنك تعلم أن الدراهم والدنانير لا غرض في أعيانهما إذ لا تصلح لمطعم ولا مشرب ولا منكح ولا ملبس وإنما هي والحصباء بمثابة واحدة ولكنهما محبوبان لأنهما وسيلة إلى جميع المحاب وذريعة إلى قضاء الشهوات فكذلك الجاه لأن معنى الجاه ملك القلوب من الأحرار والقدرة على استسخارها يفيد قدرة على التوصل إلى جميع الأغراض فالاشتراك في السبب اقتضى الاشتراك في المحبة وترجيح الجاه على المال اقتضى أن يكون الجاه الأول‏:‏ أن التوصل بالجاه إلى المال أيسر من التوصيل بالمال إلى الجاه فالعالم أو الزاهد الذي تقرر له جاه في القلوب لو قصد اكتساب المال تيسر له فإن أموال أرباب القلوب مسخرة للقلوب ومبذولة لمن اعتقد فيه الكمال وأما الرجل الخسيس الذي لا يتصف بصفة كمال إذا وجد كنزاً ولم يكن له جاه يحفظ ماله وأراد أن يتوصل بالمال إلى الجاه لم يتيسر له فإذاً الجاه آلة ووسيلة إلى المال فمن ملك الجاه فقد ملك المال ومن ملك المال لم يملك الجاه بكل حال فلذلك صار الجاه أحب‏.‏

الثاني‏:‏ هو أن المال معرض للبلوى والتلف بأن يسرق ويغصب ويطمع فيه الملوك والظلمة ويحتاج فيه إلى الحفظة والحراس والخزائن ويتطرق إليه أخطار كثيرة وأما القلوب إذا ملكت فلا تتعرض لهذه الآفات فهي على التحقيق خزائن عتيدة لا يقدر عليها السراق ولا تتناولاه أيدي النهاب والغصاب وأثبت الأموال العقار ولا يؤمن فيه الغصب والظلم ولا يستغني عن المراقبة والحفظ وأما خزائن القلوب فهي محفوظة محروسة بأنفسها والجاه في أمن وأمان من الغصب والسرقة فيها‏.‏

نعم إنما تغصب القلوب بالتصريف وتقبيح الحال وتغيير الاعتقاد فيما صدق به من أوصاف الكمال وذلك مما يهون دفعه ولا يتيسر على محاولة فعله‏.‏

الثالث‏:‏ أن ملك القلوب يسري ونمي ويتزايد منغير حاجة إلى تعب ومقاساة فإن القلوب إذا أذعنت لشخص واعتقدت كماله بعلم أو عمل أو غيره أفصحت الألسنة لا محالة بما فيها فيصف ما يعتقده لغيره ويقتنص ذلك القلب أيضاً له ولهذا المعنى يحب الطبع الصيت وانتشار الذكر‏.‏

لأن ذلك إذا استطار في الأقطار اقتنص القلوب ودعاها إلى الإذعان والتعظيم فلا يزال يسري من واحد إلى واحد ويتزايد وليس له مرد معين وأما المال فمن ملك منه شيئاً فهو مالكه ولا يقدر على استنمائه إلا بتعب ومقاساة والجاه أبداً في النماء بنفسه ولا مرد لموقعه والمال واقف ولهذا إذا عظم الجاه وانتشر الصيت وانطلقت الألسنة بالثناء استحقرت الأموال في مقابلته فهذه مجامع ترجيحات الجاه على المال‏.‏

وإذا فصلت كثرت وجوه الترجيح‏.‏

فإن قلت فالإشكال قائم في المال والجاه جميعاً فلا ينبغي أن يحب الإنسان المال والجاه‏.‏

نعم القدر الذي يتوصل به إلى جلب الملاذ ودفع المضار معلوم كالمحتاج إلى الملبس والمسكن والمطعم أو كالمبتلي بمرض أو بعقوبة إذا كان لا يتوصل إلى دفع العقوبة عن نفسه إلا بمال أو جاه فحبه للمال والجاه معلوم إذ كل ما لا يتوصل إلى المحبوب إلا به فهو محبوب وفي الطباع أمر عجيب وراء هذا وهو حب جميع الأموال وكنز الكنوز وادخار الذخائر واستكثار الخزائن وراء جميع الحاجات حتى لو كان للعبد واديان من ذهب لابتغى لهما ثالثاً وكذلك يحب الإنسان اتساع الجاه وانتشار الصيت إلى أقاصي البلاد التي يعلم قطعاً أنه لا يطؤها ولا يشاهد أصحابها ليعظموه أو ليبرون بمال أو ليعينوه على غرض من أغراضه ومع اليأس من ذلك فإنه يلتذ به غاية الالتذاذ وحب ذلك ثابت في الطبع ويكاد يظن أن ذلك جهل فإنه حب لما لا فائدة فيه لا في الدنيا ولا في الآخرة فنقول‏:‏ نعم هذا الحب لا تنفك عنه القلوب‏.‏

وله سببان أحدهما‏:‏ جلي تدركه الكافة‏.‏

والآخر‏:‏ خفي وهو أعظم السببين ولكنه أدقهما وأخفاهما وأبعدهما عن أفهام الأذكياء فضلاً عن الأغبياء وذلك لاستمداده من عرق خفي في النفس وطبيعة مستكنة في الطبع لا يكاد يقف عليها إلا الغواصون‏.‏

فأما السبب الأول‏:‏ فهو دفع ألم الخوف لأن الشفيق بسوء الظن مولع والإنسان وإن كان مكفياً في الحال فإنه طويل الأمل ويخطر بباله أن المال فيه كفايته ربما يتلف فيحتاج إلى غيره فإذا خطر ذلك بباله هاج الخوف من قلبه ولا يدفع ألم الخوف إلا الأمن الحاصل بوجود مال آخر يفزغ إليه إن أصابت هذا المال جائحة فهو أبدا لشفقته على نفسه وحبه للحياة يقدر طول الحياة ويقدر هجوم الحاجات ويقدر إمكان تطرق الآفات إلى الأموال ويستشعر الخوف من ذلط فيطلب ما يدفع خوفه وهو كثرة المال حتى إن أصيب بطائفة من ماله استغنى بالآخر وهذا خوف لا يوقف له على مقدار مخصوص من المال فلذلك لم يكن لمثله موقف إلى أن يملك جميع ما في الدنيا ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ منهومان لا يشبعان منهوم العلم ومنهوم المال ومثل هذه العلة تطرد في حبه قيام المنزلة والجاه في قلوب الأباعد عن وطنه وبلده فإنه لا يخلو عن تقدير سبب يزعجه عن الوطن أو يزعج أولئك عن أوطانهم إلى وطنه ويحتاج إلى الاستعانة بهم ومهما كان ذلك ممكناً ولم يكن احتياجه إليهم مستحيلاً إحالة ظاهرة كان للنفس فرح ولذة بقيام الجاه في قلوبهم لما فيه من الأمن من هذا الخوف‏.‏

وأما السبب الثاني وهو الأقوى‏:‏ لأن أمر رباني به وصفه الله تعالى إذ قال سبحانه ‏"‏ ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي ‏"‏ أو معنى كونه ربانياً أنه من أسرار علوم المكاشفة ولا رخصة في إظهاره إذا لم يظهره رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنك قبل معرفة ذلك تعلم أن للقلب ميلاً إلى صفات بهيمية كالأكل والوقاع وإلى صفات سبعية كالقتل والضرب والإيذاء وإلى صفات شيطانية كالمكر والخديعة والإغواء وإلى صفات ربوبية كالكبر والعز والتجبر وطلب الاستعلاء وذلك لأنه مركب من أصول مختلفة يطول شرحها وتفصيلها فهو لما فيه من الأمر الرباني يحب الربوبية بالطبع ومعنى الربوبية التوحد بالكمال والتفرد بالوجود على سبيل الاستقلال‏.‏

فصار الكمال من صفات الإلهية فصار محبوباً بالطبع للإنسان والكمال بالتفرد بالوجود فإن المشاركة في الوجود نقص لا محالة فكمال الشمس أنها موجودة وحدها فلو كان معها شمس أخرى لكان ذلك نقصاً في حقها إذ لم تكن منفردة بكمال معنى الشمسية والمنفرد بالوجود هو الله تعالى إذ ليس معه موجود سواه فإن ما سواه أثر من آثار قدرته لا قوام له بذاته بل هو قائم به فلم يكن موجوداً معه لأن المعية توجب المساواة في الرتبة والمساواة في الرتبة نقصان في الكمال بل الكامل من لا نظير له في رتبته‏.‏

وكما أن إشراق نور الشمس في أقطار الآفاق ليس نقصاناً في الشمس بل هو من جملة كمالها وإنما نقصان الشمس بوجود شمس أخرى تساويها في الرتبة مع الاستغناء عنها فكذلك وجود كل ما في العالم يرجع إلى إشراق أنوار القدرة فيكون تابعاً ولا يكون متبعاً فإذن معنى الربوبية التفرد بالوجود وهو الكمال‏.‏

وكل إنسان فإنه بطبعه محب لأن يكون هو المنفرد بالكمال ولذلك قال بعض مشايخ الصوفية‏:‏ ما من إنسان إلا وفي باطنه ما صرح به فرعون من قوله ‏"‏ أنا ربكم الأعلى ‏"‏ ولكنه ليس يجد له مجالاً وهو كما قال فإن العبودية قهر على النفس‏.‏

والربوبية محبوبة بالطبع وذلك للنسبة الربانية التي أومأ إليها قوله تعالى ‏"‏ قل الروح من أمر ربي ‏"‏ ولكن لما عجزت النفس عن درك منتهى الكمال لمتسقط شهوتها للكمال فهي محبة للكمال ومشتهية له وملتذة به لذاته لا لمعنى آخر وراء الكمال وكل موجود فهو محب لذاته ولكمال ذاته ومبغض للهلاك الذي هو عدم ذاته أو عدم صفات الكمال من ذاته‏.‏

وإنما الكمال بعد أن يسلم التفرد بالوجود في الاستيلاء على كل الموجودات فإن أكمل الكمال أن يكون وجود غيرك منك فإن لم يكن منك إن تكون مستولياً عليه فصار الاستيلاء على الكل محبوباً بالطبع لأنه نوع كمال‏.‏

وكل موجود يعرف ذاته فإنه يحب ذاته ويحب كمال ذاته ويلتذ به إلا أن الاستيلاء على الشيء بالقدرة على التأثير فيه وعلى تغييره بحسب الإرادة وكونه مسخراً لك تردده كيف تشاء فأحب الإنسان أن يكون له استيلاء على كل الأشياء الموجودة مع‏.‏

إلا أن الموجودات منقسمة إلى ما لا يقبل التغيير في نفسه كذات الله تعالى وصفاته‏.‏

وإلى ما يقبل التغيير ولكن لا يستولى عليه قدرة الخلق كالأملاك والكواكب وملكوت السموات ونفوس الملائكة والجن والشياطين وكالجبال والبحار‏.‏

وإلى ما يقبل التغيير بقدرة العبد كالأرض وأجزائها وما عليها من المعادن والنبات والحيوان ومن جملتها قلوب الناس فإنها قابلة للتأثير والتغيير مثل أجسادهم وأجساد الحيوانات‏.‏

فإذا انقسمت الموجودات إلى ما يقدر الإنسان على التصرف فيه كالأرضيات وإلى ما لا يقدر عليه كذات الله تعالى والملائكة والسموات أحب الإنسان أن يستولي على السموات بالعلم والإحاطة والإطلاع على أسرارها فإن ذلك نوع استيلاء إذ المعلوم المحاط به كالداخل تحت العلم والعالم كالمستولي عليه فلذلك أحب أن يعرف الله تعالى والملائكة والأفلاك والكواكب وجميع عجائب السموات وجميع عجائب البحار والجبال وغيرها لأن ذلك نوع استيلاء عليها والاستيلاء نوع كمال‏.‏

وهذا يضاهي اشتياق منن عجز عن صنعة عجيبة إلى معرفة طريق الصنعة فيها كمن يعجز عن وضع الشطرنج فإنه قد يشتهي أن يعرف اللعب به وأنه كيف وضع وكمن يرى صنعة عجيبة في الهندسة أو الشعبذة أو جر الثقيل أو غيره وهو مستشعر في نفسه بعض العجز والقصور عنه ولكنه يشتاق إلى معرفة كيفيته فهو متألم ببعض العجز متلذذ بكمال العلم إن علمه‏.‏

وأما القسم الثاني‏:‏ وهو الأرضيات التي قدر الإنسان عليها إن يحب بالطبع أن يستولي عليها بالقدرة على التصرف فيها كيف يريد وهي قسمان‏:‏ أجساد وأرواح‏.‏

‏"‏ أما الأجساد ‏"‏ فهي الدراهم والدنانير والأمتعة فحب أن يكون قادراً عليها يفعل فيها ما شاء من الرفع والوضع والتسليم والمنع فإن ذلك قدرة والقدرة كمال والكمال من صفات الربوبية والربوبية محبوبة بالطبع فلذلك أحب الأموال وإن كان لا يحتاج إليها في ملبسه ومطعمه وفي شهوات نفسه وبذلك طلب استرقاق العبيد واستعباد الأشخاص الأحرار ولو بالقهر والغلبة حتى يتصرف في أجسادهم وأشخاصهم بالاستسخار وإن لم يملك قلوبهم فإنها ربما لم تعتقد كماله حتى يصير محبوباً لها ويقوم القهر منزلته فيها إن الحشمة القهرية أيضاً لذيذة لما فيها من القدرة‏.‏

‏"‏ القسم الثاني ‏"‏ نفوس الآدميين وقلوبهم وهي أنفس ما على وجه الأرض فهو يحب أن يكون له استيلاء وقدرة عليها لتكون مسخرة له متصرفة تحت إشارته وإرادته لما فيه من كمال الاستيلاء والتشبه بصفات الربوبية والقلوب إنما تتسخر بالحب ولا تحب إلا باعتقاد الكمال فإن كل كمال محبوب لأن الكمال من الصفات الإلهية والصفات الإلهية كلها محبوبة بالطبع للمعنى الرباني من جملة معاني الإنسان وهو الذي لا يبليه الموت فيعدمه ولا يتسلط عليه التراب فيأكله فإنه محل الإيمان والمعرفة وهو الواصل إلى لقاء الله تعالى والساعي إليه فإذن معنى الجاه تسخير القلوب ومن تسخرت له القلوب كانت له قدرة واستيلاء عليها والقدرة والاستيلاء كما وهو من أوصاف الربوبية‏.‏

فإذن محبوب القلب بطبعه الكمال بالعلم والقدرة والمال والجاه من أسباب القدرة ولا نهاية للمعلومات ولا نهاية للمقدورات وما دام يبقى معلوم أو مقدور فالشوق لا يسكن والنقصان لا يزول‏.‏

ولذلك قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ منهومان لا يشبعان ‏"‏ فإذن مطلوب القلوب الكمال والكمال بالعلم والقدرة وتفاوت الدرجات فيه غير محصور فسرور كل إنسان ولذته بقدر ما يدركه من الكمال فهذا هو السبب في كون العلم والمال والجاه محبوباً وهو أمر وراء كونه محبوباً لأجل التوصل إلى قضاء الشهوات فإن هذه العلة قد تبقى مع سقوط الشهوات بل يحب الإنسان من العلوم ما لا يصلح للتوصل به إلى الأغراض بل ربما يفوت عليه جملة من الأغراض والشهوات ولكن الطبع يتقاضى طلب العلم في جميع العجائب والمشكلات لأن في العلم استيلاء على المعلوم وهو نوع من الكمال الذي هو من صفات الربوبية فكان محبوباً بالطبع إلا أن في حب كمال العلم والقدرة أغاليط لا بد من بيانها إن شاء الله تعالى‏.‏

بيان الكمال الحقيقي والكمال الوهمي الذي لا حقيقة له

قد عرفت أنه لا كمال بعد فوات التفرد بالوجود إلا في العلم والقدرة ولكن الكمال الحقيقي فيه متلبس بالكمال الوهمي وبيانه أن كمال العلم لله تعالى وذلك من ثلاثة أوجه‏:‏ ‏"‏ أحدها ‏"‏ من حيث كثرة المعلومات وسعتها فإنه محيط بجميع المعلومات فلذلك كلما كانت علوم العبد أكثر كان أقرب إلى الله تعالى ‏"‏ الثاني ‏"‏ من حيث تعلق العلم بالمعلوم على ما هو به وكون المعلوم مكشوفاً به كشفاً تاماً فإن المعلومات مكشوفة لله تعالى بأتم أنواع الكشف على ما هي عليه فلذلك مهما كان علم العبد أوضح وأيقن وأصدق وأوفق للمعلوم في تفاصيل صفات العلوم كان أقرب إلى الله تعالى ‏"‏ الثالث ‏"‏ من حيث بقاء العلم أبد الآباد بحيث لا يتغير ولا يزول فإن علم الله

تعالى باق لا يتصور أن يتغير فكذلك مهما كان علم العبد بمعلومات لا يقبل التغير والانقلاب كان والمعلومات قسمان‏:‏ متغيرات وأزليات‏.‏

أما المتغيرات‏:‏ فمثالها العلم بكون زيد في الدار فإنه علم له معلوم ولكنه يتصور أن يخرج زيد من الدار ويبقى اعتقاد كونه في الدار كما كان فينقلب جهلاً فيكون نقصاناً لا كمالاً فكلما اعتقدت اعتقاداً موافقاً وتصور أن ينقلب المعتقد فيه عما اعتقدته كنت بصدد أن ينقلب كمالك نقصاً ويعود علمك جهلاً‏.‏

ويلتحق بهذا المثال جميع متغيرات العالم كعلمك مثلاً بارتفاع جبل ومساحة أرض وبعد البلاد وتباعد ما بينها من الأميال والفراسخ وسائر ما يذكر في المسالك والممالك وكذلك العلم باللغات التي هي اصطلاحات تغير بتغير الأعصار والأمم والعادات فهذه علوم معلوماتها مثل الزئبق تتغير من حال إلى حال فليس فيه كمال إلا في

الحال ولا يبقى كمالاً في القلب‏.‏

القسم الثاني‏:‏ هو المعلومات الأزلية وهو جواز الجائزات ووجوب الواجبات واستحالة المستحيلات فإن هذه معلومات أزلية أبدية إذ لا يستحيل الواجب قط جائزاً ولا الجاز محالاً ولا المحال واجباً‏.‏

فكل هذه الأقسام داخلة في معرفة الله وما يجب له وما يستحيل في صفاته ويجوز في أفعاله فالعلم بالله تعالى وبصفاته وأفعاله وحكمته في ملكوت السموات والأرض وترتيب الدنيا والآخرة ومايتعلق به هو الكمال الحقيقي الذي يقرب من يتصف به من الله تعالى ويبقى كمالاً للنفس بعد الموت وتكون هذه المعرفة نور للعارفين بعد الموت ‏"‏ يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا ‏"‏ أي تكون هذه المعرفة رأس مال يوصل إلى كشف ما لم ينكشف في الدنيا كما أنه معه سراج خفي فإنه يجوز أن يصير ذلك سبباً لزيادة النور بسراج آخر يقتبس منه فيكمل النور الخفي على سبيل الاستتمام ومن ليس معه أصل السراج فلا مطمع له في ذلك فمن ليس معه أصل معرفة الله تعالى لم يكن له مطمع في هذا النور فيبقى كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها بل ‏"‏ كظلمات في بحر لجى يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض ‏"‏ فإذن لا سعادة إلا في معرفة الله تعالى وأما ما عدا ذلك من المعارف فمنها ما لا فائدة له أصلاً كمعرفة الشعر وأنساب العرب وغيرهما ومنها ما له منفعة في الإعانة على معرفة الله تعالى كمعرفة لغة العرب والتفسير والفقه والأخبار فإن معرفة لغة العرب تعين على معرفة تفسير القرآن ومعرفة التفسير تعين على معرفة ما في القرآن من كيفية العبادات والأعمال التي تفيد تزكية النفس ومعرفة طريق تزكية النفس تفيد استعداد النفس لقبول الهدايا إلى معرفة الله سبحانه وتعالى كما قال تعالى ‏"‏ قد أفلح من زكاها ‏"‏ وقال عز وجل ‏"‏ والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ‏"‏ فتكون جملة هذه المعارف كالوسائل إلى تحقيق معرفة الله تعالى وإنما الكمال في معرفة الله ومعرفة صفاته وأفعاله وينطوي فيه جميع المعارف المحيطة بالموجودات إذ الموجودات كلها من أفعاله فمن عرفها من حيث هي فعل الله تعالى‏.‏

ومن حيث ارتباطها بالقدرة والإرادة والحكمة فهي من تكملة معرفة الله تعالى وهذا حكم كمال العلم ذكرناه وإن لم يكن لائقاً بأحكام الجاه والرياء ولكن أوردناه لاستيفاء أقسام الكمال‏.‏

وأما القدرة فليس فيها كمال حقيقي للعبد بل للعبد علم حقيقي وليس له قدرة حقيقية وإنما القدرة الحقيقية لله وما يحدث من الأشياء عقيب إرادة العبد وقدرته وحركته فهي حادثة بإحداث الله - كما قررنا في كتاب الصبر والشكر وكتاب التوكل وفي مواضع شتى من ربع المنجيات - فكمال العلم يبقى معه بعد الموت ويوصله إلى الله تعالى فأما كمال القدرة فلا نعم له كمال من جهة القدرة بالإضافة إلى الحال وهي وسيلة له إلى كمال العلم كسلامة أطرافه وقوة يده للبطش ورجله للمشي وحواسه للإدراك فإن هذه القوة آلة للوصول بها إلى حقيقة كمال العلم وقد يحتاج استيفاء هذه القوى إلى القدرة بالمال والجاه للتوصل به إلى المطعم والمشرب والملبس والمسكن وذلك إلى قدر معلوم فإن لم يستعمله للوصول به إلى معرفة جلال الله فلا خير فيه البتة إلا من حيث اللذة الحالية التي تنقضي على القرب ومن ظن ذلك كمالاً فقد جهل فالخلق أكثرهم هالكون في غمره هذا الجهل فإنهم يظنون أن القدرة على الأجساد بقهر الحشمة وعلى أعيان الأموال بسعة الغنى وعلى تعظيم القلوب بسعة الجاه كمال فلما اعتقدوا ذلك أحبوه ولما أحبوه طلبوه ولما طلبوه شغلوا به وتهالكوا عليه فنسوا الكمال الحقيقي الذي يوجب القرب من الله تعالى ومن ملائكته وهو العلم والحرية ‏"‏ أما العلم ‏"‏ فما ذكرناه من معرفة الله تعالى ‏"‏ وأما الحرية ‏"‏ فالخلاص من أسر الشهوات وغموم الدنيا والاستيلاء عليها بالقهر تشبهاً بالملائكة الذين لا تستفزهم الشهوة ولا يستهويهم لغضب فإن دفع آثار الشهوة والغضب عن النفس من الكمال الذي هو من صفات الملائكة‏.‏

ومن صفات الكمال لله تعالى استحالة التغيير والتأثر عليه فمن كان عن التغير والتأثر بالعوارض أبعد كان إلى الله تعالى أقرب وبالملائكة أشبه ومنزلته عند الله أعظم‏.‏

وهذا كمال ثالث سوى كمال العلم والقدر وإنما لم نورده في أقاسم الكمال لأن حقيقته ترجع إلى عدم ونقصان فإن التغير نقصان إذ هو عبارة عن عدم صفة كائنة وهلاكها والهلاك نقص في اللذات وفي صفات الكمال‏.‏

فإذن الكمالات ثلاثة - إن عددنا ‏)‏عدم التغير بالشهوات وعدم الانقياد لها‏(‏ كمالاً ككمال العلم وكمال الحرية وأعني به عدم العبودية للشهوات وإرادة الأسباب الدنيوية - وكمال القدرة للعبد طريق إلى اكتساب كمال العلم وكمال الحرية ولا طريق له إلى اكتساب كمال القدرة الباقية بعد موته إذ قدرته على أعيان الأموال وعلى استسخار القلوب والأبدان تنقطع بالموت ومعرفته وحريته لا ينعدمان بالموت بل يبقيان كمالاً فيه ووسيلة إلى القرب من الله تعالى‏.‏

فانظر كيف انقلب الجاهلون وانكبوا على وجوههم انكباب العميان فأقبلوا على طلب كمال القدرة بالجاه والمال وهو الكمال الذي لا يسلم وإن سلم فلا بقاء له وأعرضوا عن كمال الحرية والعلم الذي إذا حصل كان أبدياً لا انقطاع له وهؤلاء هم الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا جرم لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون وهم الذين لم يفهموا قوله تعالى ‏"‏ المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير أملاً ‏"‏ فالعلم والحرية هي الباقيات الصالحات التي تبقى كمالاً في النفس والمال والجاه هو الذي ينقضي على القرب وهو كما مثله الله تعالى حيث قال ‏"‏ إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض ‏"‏ الآية‏.‏

وقال تعالى ‏"‏ واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء ‏"‏ إلى قوله ‏"‏ فأصبح هشيماً تذروه الرياح ‏"‏ وكل ما تذروه رياح الموت فهو زهرة الحياة الدنيا وكل ما لا يقطعه الموت فهو الباقيات الصالحات‏.‏

فقد عرفت بهذا أن كمال القدرة بالمال والجاه كمال ظني لا أصل له وأن من قصر الوقت على طلبه وظنه مقصوداً فهو جاهل وإليه أشار أبو الطيب بقوله‏:‏ ومن ينفق الساعات في جمع ماله مخافة فقر فالذي فعل‏:‏ الفقر إلا قدر البلغة منهما إلى الكمال الحقيقي اللهم اجعلنا ممن وفقته للخير وهديته بلطفك‏.‏

مهما عرفت أن معنى الجاه مللك القلوب والقدرة عليها فحكمه حكم ملك الأموال فإنه عرض من أعراض الحياة الدنيا وينقطع بالموت كالمال والدنيا مزرعة الآخرة فكل ما خلق في الدنيا فيمكن أن يتزود منه للآخرة وكما أنه لا بد من أدنى مال لضرورة المطعم والمشرب والملبس فلا بد من أدنى جاه لضرورة المعيشة مع الخلق والإنسان كما لا يستغني عن طعام يتناوله فيجوز أن يحب الطعام أو المال الذي يبتاع به الطعام فكذلك لا يخلو عن الحاجة إلى خادم يخدمه ورفيق يعينه وأستاذ يرشده وسلطان يحرسه ويدفع عنه ظلم الأشرار فحبه لأن يكون له في قلب خادمه من المحل ما يدعوه إلى الخدمة بمذموم وحبه لأن يكون له في قلب رفيقه من المحل ما يحسن به مرافقته ومعاونته ليس بمذموم وحبه لأن يكون له في قلب أستاذه من المحل ما يحسن به إرشاده وتعليمه والعناية به ليس بمذموم وحبه لأن يكون له من المحل في قلب سلطانه ما يحثه ذلك على دفع الشر عنه ليس بمذموم فإن الجاه وسيلة إلى الأعراض كالمال فلا فرق بينهما إلا أن التحقيق في هذا يفضي إلى أن لا يكون المال والجاه بأعيانهما محبوبين له بل ينزل ذلك منزلة حب الإنسان أن يكون له في داره بيت ماء لأنه مضطر إليه لقضاء حاجته ويود أن لو استغنى عن قضاء الحاجة حتى يستغني عن بيت الماء فهذا على التحقيق ليس محباً لبيت المال فكل ما يراد للتوصل به إلى محبوب فالمحبوب هو المقصود المتوصل إليه‏.‏

وتدرك التفرقة بمثال آخر وهو أن الرجل قد يحب زوجته من حيث إنه يدفع بها فضلة الشهوة كما يدفع بيت الماء فضلة الطعام ولو كفى مؤنة الشهوة لكان يهجز زوجته كما أنه لو كفى قضاء الحاجة لكان لا يدخل بيت الماء ولا يدور به وقد يحب الإنسان زوجته لذاتها حب العشاق ولو كفى الشهوة لبقي مستصحباً لنكاحها فهذا هو الحب دون الأول وكذلك الجاه والمال‏.‏

وقد يجب كل واحد منهما على هذين الوجهين فحبهما لأجل التوصل بهما إلى مهمات البدن غير مذموم وحبهما لأعيابهما فيما يجاوز ضرورة البدن وحاجته مذموم ولكنه لا يوصف صاحبه بالفسق والعصيان ما لم يحمل الحب على مباشرة معصية‏.‏

وما يتوصل به إلى اكتساب بكذب وخداع وارتكاب محظور وما لم يتوصل إلى اكتسابه بعبادة فإن التوصل إلى الجاه والمال بالعبادة جناية على الدين وهو حرام وإليه يرجع معنى الرياء المحظور كما سيأتي‏.‏

فإن قلت‏:‏ طلبه المنزلة والجاه في قلب أستاذه وخادمه ورفيقه وسلطانه ومن يرتبط به أمره مباح على الإطلاق كيفما كان أو يباح إلى حد مخصوص على وجه مخصوص فأقول‏:‏ يطلب ذلك على ثلاثة أوجه وجهان مباحان ووجه محظور‏.‏

أما الوجه المحظور‏:‏ فهو أن يطلب قيام المنزلة في قلوبهم باعتقادهم فيه صفة وهو منفك عنها

مثل العلم والورع والنسب فيظهر لهم أنه علوي أو عالم أو ورع وهو لا يكون كذلك‏.‏

فهذا أما أحد المباحين‏:‏ فهو أن يطلب المنزلة بصفة هو متصف بها كقول يوسف صلى الله عليه وسلم فيما أخبر عنه الرب تعالى ‏"‏ اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم ‏"‏ فإنه طلب المنزلة في قلبه بكونه حفيظاً عليماً وكان محتاجاً إليه وكان صادقاً فيه ‏"‏ والثاني ‏"‏ أن يطلب إخفاء عيب من عيوبه ومعصية من معاصيه حتى لا يعلم فلا تزول منزلته به فهذا أيضاً مباح لأن حفظ

الستر على القبائح جائز ولا يجوز هتك الستر وإظهار القبيح‏.‏

وهذا ليس فيه تلبيس بل هو سد لطريق العلم بما لا فائدة في العلم به كالذي يخفي عن السلطان أنه يشرب الخمر ولا يلقى إليه أنه ورع فإنه قوله‏:‏ إني ورع تلبيس وعدم إقراره بالشرب لا يوجب اعتقاد الورع بل يمنع العلم بالشرب‏.‏

ومن جملة المحظورات تحسين الصلاة بين يديه ليحسن فيه اعتقاده فإن ذلك رياء وهو ملبس إذ يخيل إليه أنه من المخلصين الخاشعين لله وهو مراء بما يفعله فكيف يكون مخلصاً فطلب الجاه بهذا الطريق حرام وكذا بكل معصية وذلك يجري مجرى اكتساب المال الحرام من غير فرق وكما لا يجوز له أن يتملك مال غيره بتلبيس في عوض أو غيره فلا يجوز له أن يتملك قلبه بتزوير وخداع فإن مللك القلوب أعظم من ملك الأموال‏.‏

وارتياح النفس به وميل الطبع إليه وبغضها للذم ونفرتها منه اعلم أن لحب المدح والتذاذ القلب به أربعة أسباب‏:‏ السبب الأول وهو الأقوى‏:‏ شعور النفس بالكمال فإنا بينا أن الكمال محبوب وكل محبوب فإدراكه لذيذ‏.‏

فمهما شعرت النفس بكمالها ارتاحت واعتزت وتلذذت والمدح يشعر نفس الممدوح بكمالها فإن الوصف الذي به مدح لا يخلو إما أن يكون جلياً ظاهراً أو يكون مشكوكاً فيه فإن كان جلياً ظاهراً محسوساً كانت اللذة به أقل ولكنه لا يخلو عن لذة كثنائه عليه بأنه طويل القامة أبيض اللون فإن هذا نوع كمال ولكن النفس تغفل عنه فتخلو عن لذته فإذا استشعرته لم يخل حدوث الشعور عن حدوث لذة وإن كان ذلك الوصف مما يتطرق إليه الشك فاللذة فيه أعظم كالثناء عليه بكمال العلم أو كمال الورع أو بالحسن المطلق فإن الإنسان ربما يكون شاكاً في كمال حسنه وفي كمال علمه وكمال ورعه ويكون مشتاقاً إلى زوال هذا الشك بأن يصير مستيقناً لكونه عديم النظير في هذه الأمور إذ تطمئن نفسه إليه إذا ذكره غيره أورث ذلك طمأنينة وثقة باستشعار ذلك الكمال فتعظم لذاته وإنما تعظم اللذة بهذه العلة مهما صدر الثناء من بصير بهذه الصفات خبير بها لا يجازف في القول إلا عن تحقيق وذلك كفرح التلميذ بثناء أستاذه عليه بالكياسة والذكاء وغزارة الفضل فإنه في غاية اللذة وإن صدر ممن يجازف في الكلام أو لا يكون بصيراً بذلك الوصف ضعفت اللذة وبهذه العلة يبغض الذم أيضاً ويكرهه لأنه يشعره بنقصان نفسه والنقصان ضد الكمال المحبوب فهو ممقوت الشعور به مؤلم ولذلك يعظم الألم إذا صدر الذم من بصير موثوق به كما ذكرناه في المدح‏.‏

السبب الثاني‏:‏ أن المدح يدل على أن قلب المادح مملوك للممدوح وأنه مريد له ومعتقد فيه ومسخر تحت مشيئته وملك القلوب محبوب والشعور بحصوله لذيذ وبهذه العلة تعظم اللذة مهما صدر الثناء ممن تتسع قدرته وينتفع باقتناص قلبه كالملوك والأكابر ويضعف مهما كان المادح ممن لا يؤبه له ولا يقدر على شيء فإن القدرة عليه بملك قلبه قدرة على أمر حقير فلا يدل المدح إلا على قدرة قاصرة وبهذه العلة أيضاً يكره الذم ويتألم به القلب وإذا كان من الأكابر كانت نكايته أعظم لأن الفائت به أعظم‏.‏

السبب الثالث‏:‏ أن ثناء المثني ومدح المادح سبب لاصطياد قلب كل من يسمعه لا سيما إذ كان ذلك ممن يلتفت إلى قوله ويعتد بثنائه وهذا مختص بثناء يقع على الملأ فلا جرم كلما كان الجمع أكثر والمثني أجدر بأن يلتفت إلى قوله كان المدح ألذ والذم أشد على النفس‏.‏

السبب الرابع‏:‏ أن المدح يدل على حشمة الممدوح واضطرار المادح إلى إطلاق اللسان بالثناء على الممدوح إما عن طوع وإما عن قهر فإن الحشمة أيضاً لذيذة لما فيها من القهر والقدرة وهذه اللذة تحصل وإن كان المادح لا يعتقد في الباطن ما مدح به ولكن كونه مضطراً إلى ذكره نوع قهر واستيلاء عليه فال جرك تكون لذته بقدر تمنع المادح وقوته فتكون لذة ثناء القوي الممتنع عن التواضع بالثناء أشد‏.‏

فهذه الأسباب الأربعة قد تجمع في مدح مادح واحد فيعظم بها الالتذاذ وقد تفترق فتنقص اللذة بها‏.‏

أما العلة الأولى وهي استشعار الكمال فتندفع بأن يعلم الممدوح أنه غير صادق في قوله كما إذا مدح بأنه نسيب أو سخي أو عالم يعلم أو متورع عن المحظورات وهو يعلم من نفسه ضد ذلك فتزول اللذة التي سببها استشعار الكمال وتبقى لذة الاستيلاء على قلبه وعلى لسانه وبقية اللذات فإن كان يعلم أن المادح ليس يعتقد ما يقوله ويعلم خلوه عن هذه الصفة بطلت اللذة الثانية وهو استيلاؤه على قلبه وتبقى لذة الاستيلاء والحشمة على اضطرار لسانه إلى النطق بالثناء فإن لم يكن ذلك عن خوف بل كان بطريق اللعب بطلت اللذات كلها فلم يكن فيه أصلاً لذة لفوات الأسباب الثلاثة فهذا ما يكشف الغطاء عن علة التذاذ النفس بالمدح وتألمها بسبب الذم‏.‏

وإنما ذكرنا ذلك ليعرف طريق العلاج لحب الجاه وحب المحمدة وخوف المذمة فإن ما لا يعرف سببه لا يمكن معالجته إذ العلاج عبارة عن حل أسباب المرض‏.‏